قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم ( الجزء الأول )
دكتور عثمان قدري مكانسي
القصة الثانية
- قال الأب : سمعتك يا بني أمسِ تقول لوالدتك : أنا خير من سعيد ، حفظ الآيات المطلوب حفظها في ثلاثة أيام ، و حفظتها في يوم واحد ، فأنا أكثر ذكاءٍ منه .
- قال الولد : نعم يا أبي ، لقد قلت هذا .. فهل تراني أخطأت ، و لم أتعدّ الحقيقة ؟
- قال الأب : و قلتَ مرة : إن والدك مدرّس قدير ، ينظر الناس إليه باحترام و تقدير ، أما خالد فوالده عامل في متجر جدك ... أليس كذلك ؟ .
- قال الولد : بلى ، لا أنكر ذلك .. فهل من مأخذ عليّ ؟.
- قال الأب : إن قلتَ هذا من قبيل الفخر بنفسك ، و التعالي على الآخرين قاصداً الحطّ من الناس والترفـّع عليهم فقد أقحمتَ نفسَك في النار - لا سمح الله - دون أن تدري ، فإنّ أحدنا يتلفّظ بالكلمة لا يلقي لها بالاً تقذفه في جهنّم سبعين خريفاً .
- قال الولد : أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ، و أستغفر الله أن أقول ما يغضبه .
- قال الأب : إنّ الإعجاب بالنفس والأهل وكثرة المال وجمال الثياب وبهاء المظهر ، والتفاخر بكثرة العبادة يهلك الإنسان .. و العُجْب يا بنيّ محبط للأعمال ، مبعد عن الجنّة ونعيمها ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبْر ..." ووضح معنى الكبر فقال : " الكبْر بطر الحق ، و غمط الناس " و الغمط الاحتقار والازدراء . وقال عليه الصلاة والسلام " ألا أخبركم بأهل النار ؟ كل عُتـُلٍ جوّاظ مستكبر " ( و العتل : الفظ الغليظ ، و الجواظ : الجَموعُ المنوعُ : و قيل المختال في مشيته . ) و كان الأولى بك - يا بنيّ - أن تحمد الله أنْ يسّر لك حفظ الآيات القرآنية ، و أن تشكره بالتواضع ... فإن كان أبوك في نظرك ونظر الناس خيراً من غيره فقد يكون في ميزان الله - نسأل الله العافية – أقلَّ بكثير ممن رأيته خيراً منهم .. و قد مدح قومٌ الصدّيقَ رضي الله عنه فقال قولتَه المشهورة : " اللهم اجعلني خيراً مما يظنون ، واغفر لي ما لا يعلمون " .
- قال الولد : جزاك الله خيراً يا والدي و معلّمي ، و الله ما كان يخطر ببالي أنني أُغضب الحقّ تبارك و تعالى ، و أعاهدك أنْ لا أعود إلى ذلك أبداً .
- قال الأب : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قصّ على الصحابة الكرام عاقبةَ مَن يُعجب بنفسه ، فيوردها موارد الهلاك ... و سأذكر لك ثلاثاً منها ، عساها تكون إشاراتٍ حمراء تمنع صاحبها أن يقع في شرّ ما يفكر به و يعمله .
أما القصة الأولى :
فقصة رجل رأى نفسه فوق الآخرين مالاً و جمالاً و حلّةً ... مشى بين أقرانه مختالاً بثوبه النفيس ، و شبابه الدافق حيويّة ، و جيبه المليء المنتفخ مالاً ، تفوح نرجسيّتُه وحبُّ ذاته في الطريقة التي يمشيها ، فهو يمدّ صدره للأمام ، ويفتح ما بين إبطيه ، لا يكاد الطريق يسعُه ، يميل بوجهه إلى اليمين مرّة ، و إلى اليسار أُخرى متعجّباً من جِدّة ثوبه ، و غلاء ثمنه ، يجر رداءَه خيَلاءَ ، يظن نفسه خيرَ مَن وطِئ الثرى ، يكادُ لا يلمس الأرض من خفّته ، يحسب أن العَظَمة إنما تكون بالمادّة والمظهر ، و نسي أنها لا تكون إلا بحسن الأخلاق و نفاسة المخبَر ، و غفَل عن قوله تعالى : " و لا تمْشِ في الأرض مَرَحاً ، إنك لن تخرِق الأرضَ و لن تبلُغ الجبالَ طولاً " وتناسى أنه مخلوق ضعيف ، أصلُه من طين ، و من سُلالة من ماء مَهين . تناسى أنّ أوّله نطفة مَذِرَةٌ ، و آخرَه جيفةٌ قذرةٌ ، و هو بينهما يحمل العَذَرةَ ... و تناسى أنّه حين صعّر خدّه للناس غضب الله عليه ، لأنه شارك الله في صفتين لا يرضاهما لغيره ، حين قال تعالى " العَظَمةُ إزاري ، و الكبرياءُ ردائي ، فمن نازعني فيهما قصمت ظهره ولا أُبالي " بل تناسى كذلك أنه سيصير إلى قبره ، حيث يأكله الدود في دار الوَحشة و الطُّلمة ، لا أنيس فيها سوى التقوى و التواضع . و غفَل أيضاً عن مصير الجبّارين المتغطرسين قبله . و قصّة قارون الذي خسف الله تعالى به الأرض قرآن يُتلى .
و قد أخبرنا الرسول الكريم أن هذا الرجل المتكبر خسف الله به الأرض ، فهو يغوصُ في مجاهلها من شِقٍّ إلى شقّ ، ومن مَهوىً ضيّق غلى حفرة أعمقَ منها ، ينزل فيها مضطرباً مندفعاً ، تصدُر عن حركته أصواتٌ متتابعةٌ إلى يوم القيامة جزاءَ تعاظمه و تكبّره ... ثم قال الرسول عليه الصلاة والسلام " إنّ الله أوحى إليّ أنْ تَواضعوا ، حتى لا يبغيَ أحدٌ على أحدٍ ، ولا يفخرَ أحدٌ على أحدٍ . "
المراجع :
الحديث في صحيح البخاري
مجلد 4 جـ 7 باب من جر ثوبه خيلاء .
وأما القصة الثانية :
فقد ذكر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن رجلين من بني إسرائيل كانا متآخيين إلا أنهما يختلفان في العبادة ، فالأول مجتهد فيها ، يصلُ قيام الليل بصيام النهار ، لا يألو في الاستزادة منها .. يرى صاحبه مقصّراً ، بل مذنباً مصرّاً على المعاصي ، فيأمره بالعبادة ، و ينهاه عن المعصية ، و لربّما وجده يوماً يشرب الخمر أو يرتكب معصية ، فنهاه عنها ، و هذا أمر يتصف به المسلم ، فيأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر ، و هكذا الدعاة دائماً " كنتم خير أمة أُخرجتْ للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ... " .. " و لْتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ، و يأمرون بالمعروف ، و ينهَوْنَ عن المنكر " إلا أن الإنسان حين يتجاوز حدّه و يتألّى على الله فقد أساء إلى الذات الإلهيّة ، و وقع في غضب الله دون أن يدري ، فكانت عاقبته خسراً .
إن العاصي حين أمره العابد أن يفعل الخير ، ونهاه عن المنكر قال له : " خَلّني وربي .. أبُعِثْتَ عليّ رقيباً ؟ ! " ... هنا نلحظ أمرين اثنين :
1- فقد كان المذنب مصراً على الذنب ، عاكفاً عليه ، متبرّماً من متابعة العابد له بالنصح و المتابعة .
2- و كان أسلوب العابد في النصح فظاً غليظاً أدّى إلى تحدّي العاصي له . و الداعية الناجحُ هيّن ليّن ، رفيق بالمذنبين ، يعاملهم معاملة الطبيب الحاني مرضاه ، فيمسح عنهم تعبهم ، ويخفف عنهم آلامهم ، فيدخل إلى قلوبهم ، و ينتزع منهم أوصابهم .....
احتدّ العابد من إصرار العاصي على ذنبه ، فاندفع يُقسم : أنّ الله لن يغفر له ، و لن يرحمه ، و لن يُدخله الجنّةَ .... فيقبض الله روحيهما ، فاجتمعا عند رب العالمين ، و يا خسارة من يغضب الله عليه ، إن العابد نزع عن الله صفة الرحمة ، وصفة الغفران ، حين أقسم أن الله لن يغفر للعاصي ...
قال الله لهذا المجتهد : أكنتَ بي عالماً ؟ أو كنت على ما في يدي قادراً ؟ لأُخيّبَنّ ظنّك ، فأنا أفعل ما أشاء ... و قال للمذنب اذهب فادخل الجنّة برحمتي ... إن الناس جميعاً ، صالحَهم و طالحَهم ، عابدهم وعاصيهم ، لن يوفـّوا الله نعمه ، و حين يدخلون الجنّة يدخلونها برحمته . .. قالها رسولُ الله صلى الله عليه و سلم ، فقالوا له : حتى أنت يا رسول الله ؟ قال : " حتى أنا إلاّ أن يتغمدَنيَ اللهُ برحمته "
و قال الله تعالى للآخر(للعابد) المتألّي على الله : اذهبوا به إلى النار ... لقد لفظ كلمة أهلكته فدخل النار و لم تنفعه عبادته .
المراجع :
رياض الصالحين باب تحقير المسلمين الحديث/ 1210 /
و أما القصة الثالثة :
فهي رديف المعنى في القصة الثانية ، إذ افتخر رجل أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل ، فقال : أنا ابن فلان ، فمن أنت ؟ لا أمّ لك . فردّه المعلّم الأول صلى الله عليه وسلّم إلى الصواب بطريقة غير مباشرة ، إذ روى الحبيب المصطفى قصة مشابهة لقصتهما حدثت أما النبي موسى عليه السلام بين رجلين . فقد فَخَر الرجل الأول بآبائه فقال : أنا ابن فلان بن فلان .. حتى عدّ تسعة آباء ، لهم بين يدَيِ الناس في حياتهم المكانةُ الساميةُ غنىً و نسباً و مكانةً .. فمن أنت حتى تطاولني و تكون لي نَدّاً ؟ ! .
لو انتبه إلى مصير أبائه و أجداده لم يفخر بهم ، إنهم كانوا كفـّاراً يعبدون الأصنام و يتخذونها آلهة. والله تعالى يقول لأمثال هؤلاء : " إنكم وما تعبدون من دون الله حصَبُ جهنّم ، أنتم لها واردون " .. لم يدخل الإيمان قلبَه فدعا بدعوى الجاهلية ، و فضّل أهلَ النار – و لو كانوا أجدادَه – على أخيه المسلم ، فكان مصيرُه مصيرَهم إذ أوحى الله إلى نبيّه موسى أن يقول له : أما أنت أيها المنتسب إلى تسعة في النار فأنت عاشرهم ،لأن المرء يُحشر مع من أحبّ . و قال الثاني : أنا فلان بن فلان بن الإسلام .. فخر بأبيه الذي رباه على الإسلام ، و قطع نسبه قبل أبيه ، فلم يفخر بجده الكافر ، و لم يعترف به ، فلا جامع يجمعه به .
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواه *** إذا افتخروا بقيس أو تميم
هل يلتقي الكفر بالإيمان والظلام بالضياء في قلب واحد ؟ ! شتّان شتّان ، فلن يعلوَ الإنسانُ بنسبه ، و يوم القيامة لا ينفعه سوى عمله " فإذا نُفخ في الصور فلا أنسابَ بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون " و قال تعالى كذلك " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " و هل ينفع نوحٌ ابنَه ؟ و إبراهيمُ أباهُ ، و رسولُ الله عمَّه أبا لهب ؟ ..
فأوحى الله إلى نبيّه موسى أن يهنئه بالفوز و النجاح حين قال : أما أنت أيها المنتسب إلى والدك المسلم ودينك العظيم فأنت من أهل الجنّة . تعصّبتَ إلى دينك ، و تشرفتَ بالانتساب إليه فأنت منه ، و هو منك .
المراجع :
مسند الإمام أحمد جزء 5 ص 128 .
--
الانتقال إلى موقع الويب الخاص بالمجموعة
إزالتي من القائمة البريدية للمجموعة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يهمنا النقد البناء والرأي العام
أضف تعلقيك / لكن تذكر أن يديك سوف تتحاسب يوم القيامة